فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم يقول سبحانه: {إنَّ الله كَانَ عَليمًا حَكيمًا} [الأحزاب: 1] فالعلم غير الحكمة، العلم أن تعلم القضايا، أمّا الحكمة فأنْ تُوظّف هذه القضايا في أماكنها، فالعلم وحده لا يكفي، فالصفتان متلازمتان متكاملتان، كما في قوله تعالى: {إنَّ خَيْرَ مَن استأجرت القوي الأمين} [القصص: 18].
فالقوي إنْ كان خائنًا لم تنفعك قوته، كذلك إنْ كان الأمين ضعيفًا فلا تنفعك أمانته؛ لذلك لما اشتكى أمير المؤمنين إلى أحد خاصته من أهل العراق، يقول: إن استعملتُ عليهم القوي يَفْجُروه، وإن استعملتُ عليهم الضعيف يُهينَوه، فقال له: إن استعملت عليهم القوي فلك قوته وعليه فجوره، فقال له أمير المؤمنين: ما دُمْتَ قد عرفتََ هذا فلا أُوَلّى عليهم غيرك.
إذن: فالعلم يعطيك قضايا الخير كله، والحكمة أنْ تضع الشيء في موضعه، والقضية في مكانها.
ثم يقول الحق سبحانه: {واتبع مَا يوحى إلَيْكَ}.
نلحظ هنا نهيًا بين أمرين: الأول {يا أيها النبي اتق الله} [الأحزاب: 1] والاخر: {واتبع مَا يوحى إلَيْكَ من رَبّكَ} [الأحزاب: 2] وبينهما النهي: {وَلاَ تُطع الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] ووقوع هذا النهي بين هذين الأمرين ترتيب طبيعي؛ لأنك إذا اتقيتَ الله ستُعلى منهج الحق، وهذا يؤذي أهل الباطل وأهل الفساد المستفيدين به، فلابد أنْ يأتوا إليك يوسوسون في أُذنك ليصرفوك عن منهج ربك، وعليك إذن أنْ ترد الأمر إلى ما يوحى إليك وأنْ تتبعه.
وقلنا: إن الوحي: إعلام بخفاء، فإنْ كان علانية فلا يُعَدُّ وحيًا، ولله تعالى في وحيه وسائل كثيرة مع جميع خَلْقه، فيوحي سبحانه إلى الجماد؛ لأنه قادر على أن يخاطب الجماد، كما في قوله سبحانه وتعالى عن الأرض: {يَوْمَئذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 4-5].
ويوحي إلى النحل: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَن اتخذي منَ الجبال بُيُوتًا وَمنَ الشجر وَممَّا يَعْرشُونَ} [النحل: 68].
ويُوحى إلى غير رسول أو نبي: {وَإذْ أَوْحَيْتُ إلَى الحواريين أَنْ آمنُوا بي وَبرَسُولي} [المائدة: 111].
وقال: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمّ موسى أَنْ أَرْضعيه} [القصص: 7].
هذا هو الوحي في معناه العام، أما الوحي الخاص فيكون من الله تعالى لرسول مُرْسَل من عنده إلى الخَلْق، وله طرق متعددة، فمرةَ يكون بالنفث في الروع، ومرة يكون بالوحي بكلام لا يُرى قائله، ولا يُعرف مصدره، ومرة يكون عن طريق رسول ينزل به من الملائكة.
يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إلاَّ وَحْيًا أَوْ من وَرَاء حجَابٍ أَوْ يُرْسلَ رَسُولًا} [الشورى: 51].
والقرآن الكريم لم يأْت بالإلهام ولا بالكلام من وراء الغيب والحُجُب، إنما جاء عن طريق رسول مَلَك نزل به على رسول الله، فثبت القرآن من هذا الطريق.
ولابُدَّ في هذه المسألة من التقارب بين الرسول الملَك، والرسول البشر، فلكل منهما طبيعته الخاصة، ولكي يلتقيا لابد من أمرين: إما أنْ يرتفع البشر إلى مرتبة الملائكية بحيث يستقبل منها، أو ينزل الملَك إلى مرتبة البشرية بحيث يستطيع أنْ يُلقنها.
لذلك جاء في الحديث أن جبريل عليه السلام نزل إلى مجلس رسول الله في صورة بشرية ليُعلّم الناس أمور دينهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الوحي تأخذه قشعريرة، ويتصبب جبينه عرقًا، حينما يأتيه جبريل بالوحي، وما ذاك إلا لالتقاء الملكية بالبشرية، فكان صلى الله عليه وسلم يبلغ به الجهد حتى يقول: زمّلوني زمّلوني، دثّروني دثّروني.
وإذا جاءه الوحي وهو جالس مع أصحابه وركبته على ركبة أحدهم يشعر لها بثقل كأنها الجبل، أو يأتيه الوحي وهو على دابة فكانت تئط، لذلك فتر عن رسول الله الوحي بعد فترة ليستريح من هذا الإجهاد، وتبقى له حلاوة ما أُوحي إليه، فيتشوق إليه من جديد.
وبعدها خاطبه ربه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذكْرَكَ} [الشرح: 1-4].
والهدف حينما يكون غاليًا، والغاية سامية يهون في سبيلها كل جهد، وقد عاد الوحي إلى رسول الله بعد شوق، وخاطبه ربه بقوله: {وَلَلآخرَةُ خَيْرٌ لَّكَ منَ الأولى وَلَسَوْفَ يُعْطيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 4-5].
إذن: ثبت القرآن بالوحي عن طريق الرسول الملَك، ولم يثبت بالإلهام أو النفث في الرَّوْع، أو الكلام من وراء حجاب، يقول تعالى: {وَكَذَلكَ أَوْحَيْنَآ إلَيْكَ رُوحًا مّنْ أَمْرنَا مَا كُنتَ تَدْري مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52].
والوحي هنا: {واتبع مَا يوحى إلَيْكَ} [الأحزاب: 2] منْ مَنْ؟ {من رَبّكَ} [الأحزاب: 2] ولم يقل مثلًا رب الخلق، نعم هو سبحانه رب الخَلْق جميعًا، لكن محمدًا صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، فهو رب الخلق من باب أَوْلَى، وكلمة {ربك} تدل على الحب وعلى الاهتمام، وأنه تعالى لن يخذلك أبدًا، وما اتصاله بك إلا للخير لك ولأمتك.
ثم يقول تعالى: {إنَّ الله كَانَ بمَا تَعْمَلُونَ خَبيرًا} [الأحزاب: 2] الخبير مَنْ وصل إلى منتهى العلم الدقيق، ومنه قولنا: اسأل أهل الخبرة. يعني: لا يسأل أهل العلم السطحي، فالخبير هو الذي لا يغيب عنه شيء.
وتلحظ أن الآية السابقة خُتمتْ بقوله تعالى: {إنَّ الله كَانَ عَليمًا حَكيمًا} [الأحزاب: 1] أي: عليمًا بما يُشرّع، حكيمًا يضع الأمر في موضعه، وقال هنا: {إنَّ الله كَانَ بمَا تَعْمَلُونَ خَبيرًا} [الأحزاب: 2] أي: بما ينتهي إليه أمرك مع التشريع، استجابةً أو رفضًا، فربُّك لن يُشرّع لك ثم يتركك، إنما يَخْبُر ما تصنع، ولو حتى نوايا القلوب.
فالخبرة تدل على منتهى العلم وعلى العلم الواسع، وهذا المعنى واضح في قوله تعالى في قصة لقمان: {يابني إنَّهَآ إن تَكُ مثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أَوْ في السماوات أَوْ في الأرض يَأْت بهَا الله إنَّ الله لَطيفٌ خَبيرٌ} [لقمان: 16].
فالخبرة تدل على العلم الواسع الذي لا تفوته جزئية مهما صغرت، واللطف هو التغلغل في الأشياء مهما كانت دقيقة، وقلنا: إن الشيء كلما لَطُفَ عَنُفَ.
فكأن الحق سبحانه يقول لرسوله: اطمئن، فمهما صُودمتَ من خصومك، ومهما تألَّبوا عليك، فربُّك من ورائك لم يتخلى عنك، وهؤلاء الخصوم خَلْقي، وأنا معطيهم الطاقات المفكرة والطاقات العاقلة والطاقات المتآمرة، وسوف أنصرك عليهم في كل مرحلة من مراحل كيدهم لك.
لذلك لم يقووا عليك مناظرة ولا جدلًا، ولم يقدروا عليك حين بيَّتوا لك ليضربوك ضربة رجل واحد، فيتفرق دمك بين القبائل، وخرجتَ من بينهم سالمًا تحثو التراب على رءوسهم، حتى لما استعانوا عليك بالسحر وبالجن أخبرتُك بما يدبرون لك، ولم أُسلْمْك لكيدهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَتَوَكَّلْ على الله}.
يعني: إياك أن تظن أن واحدًا من هؤلاء سوف يساعدك في أمرك، أو أنه يملك لك ضرًا ولا نفعًا، فلا تُحسن الظن بأوامرهم لا بنواهيهم، ولا تتوكل عليهم في شيء، إنما توكل على الله.
ولابُدَّ أن نُفرق هنا بين التوكل والتواكل: التوكل أن تكون عاجزًا في شيء، فتذهب إلى مَنْ هو أقوى منك فيه، وتعتمد عليه في أن يقضيه لك، شريطة أن تستنفد فيه الأسباب التي خلقها الله لك، فالتوكل إذن أن تعمل الجوارح وتتوكل القلوب.
وقد ضرب لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلًا توضيحيًا في هذه المسألة بالطير، فقال: «لو توكلتم على الله حقَّ توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا».
أما التواكل فأنْ ترفضَ الأسباب التي قدمها الله لك، وتقعد عن الأَخْذ بها، وتقول: توكلت على الله، لا إنما استنفد الأسباب الموجودة لك من ربك، فإنْ عزَّتْ عليك الأسباب فلا تيأس؛ لأن لك ربًا أقوى من الأسباب؛ لأنه سبحانه خالق الأسباب.
لذلك، كثير من الناس يقولون: دعوتُ الله فلم يستجب لي، نقول: نعم صدقت، وصدق الله معك؛ لأن الله تعالى أعطاك الأسباب فأهملتها، فساعة تستنفد أسبابك، فثقْ أن ربك سيستجيب لك حين تلجأ إليه.
واقرأ قوله تعالى: {أَمَّن يُجيبُ المضطر إذَا دَعَاهُ وَيَكْشفُ السواء} [النمل: 62] والمضطر هو الذي عزَّتْ عليه الأسباب، وخرجتْ عن نطاق قدرته كما حدث لسيدنا موسى- عليه السلام- حين حاصره فرعون وجنوده حتى قال قوم موسى: {إنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61].
نعم، مدركون؛ لأن البحر من أمامهم، والعدو من خلفهم، هذا رأي البشر وواقع الأمر، لكن لموسى منفذ آخر فقال: {كلا} يعني لن نُدْرَك {إنَّ مَعيَ رَبّي سَيَهْدين} [الشعراء: 62] قالها موسى رصيد إيماني وثقة في أن الله سيستجيب له.
والبعض يقول: دعوتُ الله في كذا وكذا، وأخذت بكل الأسباب، فلم يستجب لي، نقول: نعم لكنك لَسْتَ مضطرًا، بل تدعو الله عن ترف كمن يسكن مثلًا في شقة ويدعو الله أنْ يسكن في فيلا أو قصر، فأنت في هذه الحالة لست مضطرًا.
ثم يذكر الحق سبحانه حيثية التوكل على الله، فيقول: {وكفى بالله وَكيلًا} [الأحزاب: 3] أي: يكفيك أنْ يكون الله وكيلك؛ لأنه لا شيء يتأبَّى عليه، ولا يستحيل عليه شيء.
وأحكي لكم قصة حدثت بالفعل معنا، وكنا نسير مع بعض الإخوان فرأينا رجلًا مكفوف البصر يريد أنْ يعبر الشارع فقلنا لزميل لنا: اذهب وخذ بيده، فنزل وعبر به الشارع ثم قال له: إلى أين تذهب؟ قال: إلى المنزل رقم كذا في هذا الشارع، فأخرج صاحبنا من جيبه عشرة جنيهات ووضعها في يد الرجل، فلما أمسك بورقة العشرة جنيهات لم يلتفت إلى المعطي، إنما رفع وجهه إلى السماء وقال: لا شيء يستحيل عليك أبدًا، ثم قال لصحابنا: يا بني أرجعني مكان ما كنت!! فقد قضيت حاجته التي كان يسعى لها!!.
نعم {وكفى بالله وَكيلًا} [الأحزاب: 3] لأنه لا تعوزه أسباب، ولا يُثنيه عن إرادته شيء.
{مَا عندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96].
وفي التوكل ملحظ آخر ينبغي أنْ نتنبه إليه، هو أنك إذا توكلتَ على أحد يقضي لك أمرًا فاضمن له أنْ يعيش لك حتى يقضي حاجتك، فكيف تتوكل على شخص وتُعلّق به كل آمالك، وفي الصباح تسمع نعيه: مات فلان؟
إذن: لا ينبغي أن تتوكل إلا على الله الحي الذي لا يموت: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ وَسَبّحْ بحَمْده} [الفرقان: 58] واستغن بوكالة الله عن كل شيء {وكفى بالله وَكيلًا} [الأحزاب: 3]. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في وقى:
وَقاهُ الله كُلَّ سُوءٍ وقايَةً ووَقْيًا وواقيَةً ووَقّاه تَوْقيَةً: صانَهُ وفى المثل: الشُّجاع مُوقًّى.
والوَقاءُ والوقاءُ بالفتح والكسر والوقايَةُ والوَقايَةُ والوَقايَةُ: ما وَقَيْت به.
والتَّوْقيَةُ: الكَلاءةُ والحفْظ ممّا يؤذيه ويضرّه قال الله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلكَ الْيَوم} واتَّقَيْتُ الشَّىءَ أَتَّقيه وتَقَيْتُه أَتْقيه تُقىً وتَقيّضةً وَتقاءً كَكساء: حَذرْتُه، والاسم التَّقْوَى، قال الله تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} أي أَهل أَنْ يُتَّقَى عقابُه.
رجلٌ تَقىٌّ من أَتقياء وتُقَواء.
وفيه تُقَيَّا تصغير تَقْوَى، قال النَّمر ابن تَوْلَب.
وإنَّى كما قَدْ تَعْلَمين لأَتَّقى ** تُقَيَّا وأُعْطى من تلادىَ للْحَمْد

وأَصل التَّقْوَى وَقْوَى، أُبدلت الواو تاءً كما أُبدلت في تُراث وتُخَمَة وتُجاه.
وكذلك اتَّقَى يَتَّقى أَصلُه إوْتَقَى يَوْتقى، فقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها، وأُبْدلت منها التاء وأُدْغمت، فلمّا كثر استعمالهُ على لفظ الافعال توهمّوا أَنَّ التَّاءَ من نفس الكلمة، فجعلوه إتَقَى يَتَقَى بفتح التاء فيهما، ثمَّ لم يجدوا له مثالًا فقالوا: تَقَى يَتْقى مثل قَضَى يَقْضى.
وتقول في الأَمر: تَقْ، والمرأَة تَقى ومن ذلك قوله:
زيادتُنا نُعْمانُ لا تَقْطَعَنَّها ** تَق اللهَ فينا والكتابَ الذي تَتْلُو

بنى الأَمر على المُخفَّف ومن عَصَى اللهَ لم تَقهْ منه واقيةً.
قال أَبو عبد الله التُّونُسى: حقيقةُ التَّقْوَى عبارةٌ عن امتثال المأْمورات واجتناب المَنْهيّات.
وقال الغزالي: التَّقْوَى في قول شُيوخنا: تنزيهُ القَلْب عن ذَنْب لم يسبق منك مثْلُه حتى يَحْصُلَ للعبد من قُوّة العَزْم على تركه وقايةٌ بينه وبين المعاصى.
وأَمّا تفصيلًا فإنَّ التقْوَى تُطْلق في القرآن الكريم على ثلاثة أَشياء:
أَحدها: بمعنى الخَشْيَة والهَيْبة، قال الله تعالى: {وَإيَّايَ فَاتَّقُون} وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فيه إلَى اللَّه}.
والثانى: بمعنى الطَّاعة والعبادَة، قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاته} قال ابنُ عبّاسٍ: أَطيعوا الله حَقَّ طاعَته.
قال مُجاهد: هو أَن يُطاع ولا يُعْصَى وأَن يُذْكَر فلا يُنْسَى، وأَن يُشْكَر فلا يُكْفَر.
الثالث: بمعنى تنزيه القَلْب عن الذُّنوب، وهذه هي الحقيقة في التَّقْوَى دُون الأَوَّلَيْن، أَلا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَن يُطع اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْه فَأُوْلَائكَ هُمُ الْفَآئزُون} ذكر الطَّاعة والخشيةَ ثمّ ذكر التَّقْوَى، فعلمت بهذا أَنّ حقيقة التقوَى بمعنى غير الطاعة والخشية، وهى تنزيه القلب عمّا ذكرناه.
ومَنازل التقوَى ثلاثةٌ على ما ذكره الشيوخ الجلَّة: تَقْوَى عن الشّرْك، وتَقْوَى عن البدْعَة؛ وتقوَى عن المعَاصى الفرعيّة.
وقد ذكرها الله سبحانه في آية واحدة وهى قوله عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ عَلَى الَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحَات جُنَاحٌ فيمَا طَعمُوا إذَا مَا اتَّقَوا وَآمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحَات ثُمَّ اتَّقَوا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحبُّ الْمُحْسنينَ} التَّقْوَى الأُولَى تَقْوَى عن الشّرْك، والإيمانُ في مقابَلَة التوحيد؛ والتَّقْوَى الثانية عن البدْعَة، والإيمانُ المذكورُ معها إقرارُ السُنَّة والجمَاعة؛ والتَّقْوَىَ الثالثة عن المعاصى الفرعيّة، والإقرار في هذه المنزلة قابَلَها بالإحْسان وهو الطَّاعة والاستقامة عليها.
قال الغزالي: ووجدت التَّقْوى بمعنى اجْتناب فُضول الحلال، وهو ما في الخَبَر المشهور عن النبىّ صلَّى الله علهي وسلَّم أَنَّه قال: «إنَّما سُمّىَ المُتَّقُونَ متقين لتَرْكهم مَالاَ بأَسَ حَذَرًا عمّا به بَأسٌ» فأَحببت أَن أَجمع بين ما قالَه عُلماؤنا وبين ما في الخبر النَّبوىّ فيكون حَدًّا جامعًا، ومعنى بالغًا فأَقول: التَّقْوَى اجْتناب ما تَخاف ضررًا في دينكَ وذلك قسمان: مَحْضُ الحَرام، وفُضُول الحَلال، لأَنَّ استعْمال فُضُول الحَلال قد يُخْرج صاحبَه إلى الحرام ومَحْض العصْيان، وذلك لشرَّة النَّفْس وطُغْيانها، فمن أَراد أَنْ يَأْمَن الضَّررَ في دينه اجْتنبَ المحظورَ وامتنعَ عن فُضُول الحلال حَذَرًا أَن يَجُرَّه إلى مَحض الحَرام.
وحَصل من ذلك أَنَّ التَّقْوَى على قسمين: فَرْضٌ ونَفْلٌ، فالفَرْضُ ما تَقَدَّم من أَنَّها تنزيهُ القلب عن شَرٍّ لم يَسْبق عَنْك مثلُه لقُوَّة العَزْم على تَرْكه حتىّ يصير ذلك وقايَةً بينك وبين كُلّ شرٍّ.
والنَّفْل: ما نُهىَ عنه نَهْىَ تأديب، وهو فُضُول الحَلال، فالمباحاتُ المأَخوذات بالشُّبُهات؛ فالأُولَى يلزمُ بتَرْكها عذابُ النار، والثَّانية خَيْرٌ وأَدَب يلزم بتركها الحَبْسُ والحساب، والتَّعْيير والَّلوْم.